الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء}.الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله: {أصيب به من أشاء} أصحاب الرّجفة، وقيل العذاب هنا هو الرّجفة و{من أشاء} أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه، وقيل: من أشاء أن لا أعفو عنه، وقيل: من أشاء من خلقي كما أصبت به قومك، وقيل: من أشاء من الكفار، وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال، وقال الزمخشري: ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى، وهو على طريقة المعتزلة، وقال ابن عباس أصيب من أشاء على الذنب اليسير، وقال أيضًا وسعت كل شيء من ذنوب المؤمنين، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق، وقال ابن زيد: هي التوبة على العموم، وقال الحسن: هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة، وقال الزمخشري: وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي انتهى، وهو بسط قول الحسن: هي في الدنيا بالرزق عامة، وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة، وقال أبو عمرو والدّاني: لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاووس وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان: لم أدرِ ولم أفطن لما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لا فعل فيه الله تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر.{فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة} أي أقضيها وأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريج والمعنى متقارب لما سمع إبليس {ورحمتي وسعت كل شيء} تطاول لها إبليس فلما سمع فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة يئس، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادت الصفة تبين أنّ المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس النصارى واليهود من الآية، وقال أهل التفسير: عرض الله هذه الخِلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل: لهم خطت لكم الأرض مسجدًا وطهورًا إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا: لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاة في الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال: يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد، قال نوف فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى {يتّقون} قال ابن عباس: وفرقة الشّرك، وقالت فرقة المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله: {ويؤتون الزكاة}، ومن قال: المعاصي ولابد خرج إلى قول المعتزلة، قال ابن عطية: والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقول لابد من اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى {يتّقون} يجعلون بينهم وبين المتقي حجابًا ووقاية، فذكر تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى.{ويؤتون الزكاة} الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم، وقال الحسن: تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله: {والذين هم بآياتنا يؤمنون} وهذه شبيهة بقوله: {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف إنّ المتصفين بذلك هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قوله للذين يتّقون ويؤتون الزكاة لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون من فعل ذلك بعد البعثة وفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز. اهـ.
.قال أبو السعود: {واكتب لَنَا} أي عيِّنْ لنا وقيل: أوجِبْ وحقِّقْ وأثبتْ {فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي نعمةً وعافيةً أو خَصلة حسنةً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة {وَفِي الآخرة} أي واكتبْ لنا فيها أيضًا حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تُبْنا وأنبْنا إليك، من هاد يهودُ إذا رجَع وقرئ بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا إليك، وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورة على بناء المفعول على لغة من يقول: عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل، والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ فإن التوبةَ مما يوجب قَبولَه بموجَب الوعدِ المحتوم، وتصديرُها بحرف التحقيقِ لإظهار كمالِ النشاطِ والرغبةِ في التوبة، والمعنى إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع هاهنا من طلب الرؤية، فبعيدٌ من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين. قيل: لما أخذتْهم الرجفةُ ماتوا جميعًا فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم، وقيل: رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم.{قَالَ} استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤال ينساق إليه الكلامُ كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى عند دعاءِ موسى عليه السلام؟ فقيل: قال: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} لعله عز وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى، فأجاب تعالى بأن عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي، ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً بالعذاب الدنيوي {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} أي شأنُها أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحت الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن العذاب الدنيوي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ مقتضى الذاتِ وأما العذابُ فبمقتضى معاصي العباد، والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضًا وعدمُ التصريحِ بها للإشعار بغاية الظهور، ألا يُرى إلى قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على اعتبار المشيئةِ كأنه قيل: فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة كما دعوتَ بقولك: واكتب لنا في هذه الخ، أي سأكتبها خالصةً غيرَ مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملامستها وفيه تعريض بقومه كأنه قيل: لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي {وَيُؤْتُونَ الزكاة} وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ شاقةً عليهم، ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارةٌ عن فعل الواجبات بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها، وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر من التعريض {والذين هُم بآياتنا} جميعًا {يُؤْمِنُونَ} إيمانًا مستمرًا من غير إخلالٍ بشيء منها، وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغيرِ ذلك.وتكريرُ الموصول مع أن المرادَ به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال: ويؤمنون بآياتنا عطفًا على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه من القَصْر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض. اهـ..قال الألوسي: {وَاكْتُبْ لَنَا} أي أثبت واقسم لنا {فِى هذه الدنيا} التي عرانا فيها ما عرانا {حَسَنَةٌ} حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.وقيل: ثناءًا جميلًا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة {وَفِي الآخرة} أي واكتب لنا أيضًا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال:ومن كلام بعضهم: وقيل: معناه مال، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما {هُدْنَا} بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر.وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيًا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري.وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجوب أن يأتي بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الاشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لاظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها {قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.وقرأ الحسن.وعمرو الأسود {مِنْ أَسَاء} بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضي الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضًا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيمًا لأمر الرحمة، وقيل: للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتًا خاصًا {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الكفر والمعاصي أما ابتداءًا أو بعد الملابسة {وَيُؤْتُونَ الزكواة} المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع انافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفار منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها {والذين هُم بآياتنا} كلها كما يفيده الجمع المضاف {يُؤْمِنُونَ} إيمانًا مستمرًا من غير اخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفًا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
|